الحملات الصليبية و"مسيح الفقراء"

فرحان صالح

الهلال اليوم - الأربعاء 30/ديسمبر/2020

لم تنته موجات الغزوات الإسلامية في بعض المناطق من فرنسا وصقلية وجنوب إيطاليا، محاصرين روما، والالتفاف على الإمبراطورية البيزنطية من قبل السلاجقة الذين سيطروا على الأناضول، حتى بدأت أوروبا تلملم نفسها، وتستجمع قواها.. متأخرًا حصل ذلك (1095م). أوروبا المنقسمة بين قطاعات مختلفة، كانت الكنيسة والمؤسسة الدينية المسيحية، أما الاقطاعيون المسيطرون على مقاليد السلطة، فيواجهون تمردًا يقوده الفلاحون والمهنيون وغيرهم، ضد استغلال الكنيسة والطبقة الاقطاعية. ومن أجل إبعاد الكأس المر والحروب الأهلية من أوروبا، قرر أوربان الثاني توجيه الأنظار لعدو وهمي، العدو هو سكان فلسطين، والهدف احتلال بيت المقدس. لقد قرر البابا وحلفاؤه من الاقطاعيين، التدخل في شؤون الاخرين، ردًا على ما فعله المسلمون مع أوروبا من قبل.
وجّه البابا أوربان الثاني الأنظار إلى احتلال الأماكن المقدسة في فلسطين.. فعقد المجمع التحضيري الأول الذي حضره آلاف من مختلف البيئات الأوروبية، في مدينة كليرمون، وذلك من أجل التعبئة وشد العصب الديني، وإعادة الاعتبار إلى التعاليم الكنسية. وبهذه الدعوه كان البابا يؤسس لحركة أوروبية تدعو إلى التوسع والسيطره في الشرق، والحجة تخليص قبر المسيح من أيدي المسلمين الذين يمنعون المسيحيين الغربيين من زيارة الأراضي المقدسة.
وقف البابا مخاطبًا المندفعين: "انسوا أقاربكم وبيتكم، أنتم مدينون لله بمحبة أعظم. ولا تنسوا أن كل مكان مسيحي هو أرض مقدسة، كذلك كل مكان هو بيت ووطن".
كان هذا الخطاب إيذانًا ببدء الحملة العسكرية إلى فلسطين تحت قيادة كبار الاقطاعيين. إذ بدأت القوى الصليبية تنتظم في منظمات تهتم بتدريب المشاركين على قتال "العدو". انتظم المشاركون الذين تجاوز عددهم خمسمائة ألف مقاتل فيما كان يعرف آنذاك بجيش الرب، وجيش الصليب.. وغير ذلك من تنظيمات. وحين الاستعداد للذهاب إلى فلسطين، جاء البابا مرة ثانية ليخاطب القوى الزاحفة قائلًا: "إن أرضكم تحاصرها البحار من كل جانب، والجبال والمستنقعات والأحراش تشغل معظم أراضيكم، ما يجعلكم تتصارعون، فانطلقوا وأخرجوا من أجل حياتكم..". لكن الهدف الأساسي الدافع لما دعا إليه البابا، إضافة إلى احتلال فلسطين، هو رغبتهم في التوسع، والسيطرة على تجارة البحر المتوسط.
في 15 أغسطس آب الموافق يوم صعود العذراء من العام 1096م، بدأت الحملة الأولى التي شارك فيها رجال ونساء وشيوخ وأطفال وقتلة مجرمون.. فكان على المشاركين بيع ممتلكاتهم، وقامت الكنيسة بشرائها بأبخس الأسعار. لقد استحوذت الكنيسة على أملاك جميع المشاركين في الحملة.
بهذا فقد أبعد البابا الخطر عمّا كان يهدد سلطته، لكن هؤلاء المضللين كانوا يجهلون كل شيء عن المكان الذاهبين إليه. لقد كانوا يعتقدون أن أي موقع يصلون إليه هو الهدف الذي حدده البابا.
لقد دفع المهاجمون عشرات الآلاف من القتلى، حتى تمكنوا أخيرا من الوصول لهدفهم. كان الفاطميون يسيطرون على فلسطين ومن ضمنها بيت المقدس.
احتل الصليبيون فلسطين، وكان الثمن قتلهم لمعظم السكان، لقد انتشرت جثث السكان في كل مكان، "للغزاة المتوحشين" الذين جاءوا للقضاء على الحضارة العربية. كما وصفهم المؤرخون العرب.
بهذه الطريقه حقق بابا روما أهدافه. لم تكن فلسطين سوى جزء من الهدف التي كانت تريده القوى الاقطاعية الأوروبية، كان البابا والاقطاعيون يريدون:

- أولًا: إبعاد الخطر الذي كان يهددهم ويتمثل بهؤلاء الذين تركوا بلادهم وأرضهم متوجهين إلى فلسطين.

- ثانيًا: كانت الطبقة الناشئة في أوروبا تريد السيطرة على الطرق التجارية للبحر المتوسط.

هذه هي الأهداف الحقيقية التي كانت تسعى إليها البابوية وأتباعها من الاقطاعيين.
لقــــد أصبح "المحارب الصليبي جنديًّا يتبع للكنيسة، وللبابـــــا والكنيسة وحدهما ولاؤه الذي يحرره من كــــل ولاء آخر". بهــــــذه السياسة، وبهـــــذا الدهـــاء أصبح أوربان الثاني الحاكم الأعلى لكل الممالك والملوك والأباطـــــره في الغرب، وأصبح أيضًا القائد العسكري والحاكم المطلق على أوروبــــــا. لقــــد عدّت الحرب المقدسة التي لم تتوقف لحوالي قرنين من الزمن، حربًا مقدسة من جانب المسيحيين ضد المسلمين.
لكن المماليك بقيادة صلاح الدين الأيوبي الذي كان شعاره "تخليص المنطقة من الفرنجة"، هو من واجه الصليبيين وانتصر عليهم في معركتي مرج دابق (1287م)، وفي عكا (1291م).
ويشير المؤرخون إلى أن أحد الأسباب الأساسية لهزيمة الصليبيين هو انعزالهم وعدم تكيفهم مع سكان المنطقه، وأغلبهم يتبعون الديانة المسيحية.
لقــــــد بقـــــي الصليبيون مسيحيون غربيون، ولم يتركوا أثرًا يذكــــر أو مؤثــــــرات يمكن العودة إليها خلال وجودهم في الشرق.
هكذا كان رد الفعل الأوروبي ضد الغزوات الإسلامية في أوروبا .

- من الحروب الصليبية إلى صكوك الغفران

ما بين القرنين الثاني عشر والسادس عشر حدثت الكثير من التطورات، بدءًا من سقوط دولة العباسيين (1256م) إلى انتشار فوضى عارمة توقفت 1516م مع سيطرة العثمانيين على المناطق التي كانت معظمها تحت سيطرة العباسيين.
في القرن السادس عشر (1513) ارتقى الراهب ليو العاشر إلى عرش الباباوية. كان ليو مغرمًا بالفنون، ويريد تخليد الرموز الدينية، وغير الدينية التي كان لها دور في رسم صورة التاريخ الإنساني. في هذا التاريخ برز الفنان الملهم مايكل أنجلو، الفنان المشهور بثقافته الواسعة، استعان ليو بمايكل لنقش كنيسة القديس بطرس، وكان ليو منفتحًا، إذ إنه اعترف بديانات ما قبله، بل وطلب من مايكل أنجلو تخليد رموزها في تماثيل ولوحات من أمثال أفلاطون وأرسطو.
ومن أجل تحقيق حلمه، كان ليو يحتاج إلى المال لتحقيق مشروعاته الكبرى في كنائس روما.
لذا، أرسل مبعوثيه إلى جميع أنحاء أوروبا، يحملون أكياسًا مقدسة ممتلئة بصكوك الغفران.
بمبالغ زهيدة كان يمكن شراء صك يستطيع صاحبه أن يأكل لحمًا أيام الصيام، أو يتزوج أو يزني بإحدى قريباته المحرمات، أو يمارس أي لذة محرمة. كان الباعة المخولون ببيع تلك الصكوك، يؤكدون للناس أن في مقدورهم شراء غفران خطاياهم، وخلاص نفوسهم بأثمان زهيدة جدًا .
لتحقيق هذه الغاية تحولت الكنائس إلى صالات بيع، فكانت تعلق شارات البابا على رأس الصليب الكبير الأحمر. يقول الراهب الكبير مندوب البابا: إن صك الغفران أثمن وأسمى هبات الله. تعالوا فأعطيكم رسائل مختومة. حتمًا بها تضمنون الغفران، حتى الخطايا التي تنوون ارتكابها.. لا توجد خطيئة مهما عظمت لا تستطيع صكوك الغفران التكفير عنها، بل ان تأثير هذه النصوص يمتد إلى الأموات الذين يصرخون من أعماق الجحيم أنقذونا..

- ظهور مارتن لوثر وبداية التحول

وفي حين خضع الكثيرون لدعوة البابا أوربان الثاني، كانت هناك معارضة علنية انتقدت ما يفعله البابا، وتمثلت هذه المعارضة في ظهور راهب اسمه مارتن لوثر، بدأ يهاجم وينتقد البابا، معتبرًا أن الدعوة إلى شراء صكوك الغفران هي هرطقة ضد المسيحية... ظهر مارتن لوثر معلقًا احتجاجه على باب كنيسة وتمبرغ. في البداية كانت لرأيه مؤثرات محدودة، لكن سرعان ما توسعت وبدأت تنتشر حتى ضمن صفوف الكنيسة ذاتها.
جاء في المنشور الأول الذي نشره مارتن لوثر: "إن ما تفعله الكنيسة عهر ديني ودجل. بل إن الكنيسة من خلال بيع تلك الصكوك، تشجع على ارتكاب أحط وأشنع المعاصي، طالما أن الناس بين أيديهم صكوك قادرة على محو أي ذنب أو أي جريمة، وبالتالي يمكن لأي حائز تلك الصكوك أن يقتل ويغتصب ويسرق، ويزيل ما يفعله بمنتهى الطمأنينة". حاولت الكنيسة الرومانيه بقيادة وتوجيه البابا مواجهة مارتن لوثر الذي وصفوه بأشنع الأوصاف... لكن مارتن واجه البابا متحديًّا ورافضًا تلك الضغوط.
بدأت آراء مارتن لوثر تنتشر، وبدأت فئات واسعة من المجتمعات الأوروبية تنتقد البابا منحازة إلى ما يطرحه مارتن لوثر الذي أعلن موقفه من أن "هذه الصكوك لا فائدة منها". لقد رأى البابا أن الأخذ بآراء لوثر، يعني فقدان من يتاجرون بهذه الصكوك وظائفهم، وهزيمته وفقدانه لمصداقيته وموقعه أيضًا.
بدأت الشعوب الأوروبية تنحاز لما يطرحه لوثر الذي بدأ يتحدى البابا؛ طلب البابا من لوثر أن يتراجع عن مواقفه، لكن لوثر رفض كل العروض.. فلوثر لم يعلن موقفًا من الكنيسة فحسب، بل أسس لمدرسة إصلاحية ولثورة أخلاقية كاملة، عقائدية، ثورة قلبت موازين القوى الفكرية واللاهوتية رأسًا على عقب.
يقول لوثر: "إن زيجات الأقدمين غير المسيحيين لا تقل قداسة عن زيجاتنا، وعلى ذلك يجب ألا يحرم الزواج بين المسيحيين وغير المسيحيين. فكما أتعامــــــل مع وثني أو يهودي أو مسلم أو هرطوقـــــي، فإن بوسعي أن أتزوج أي واحدة من نسائـــــهم، فلا تبالوا بالقانون الذي سنّه الأقدمون لتحريم هذا.. إن الشخص الوثني سواء كان رجلاً أم أنثى، خلقه الله كما خلق القديس بطرس أو القديس بولس أو القديسة لوسي. إن خلاص الإنسان لن يتم إلا بخلع الباباوية".
ويخاطب لوثر الأمة الألمانية: "لا تبالوا على الإطلاق، البابا لا قيمة له، بل إن المسيحي يصبح أكثر إيمانًا إذا تجاهل البابوية، تلك المؤسسة التي خربت عقول المسيحيين".
بدأت آراء لوثر تنتشر، وبدأت فئات واسعة من المجتمعات الأوروبيه تنتقد البابا منحازة إلى ما يطرحه لوثر الذي أعلن موقفه من أن "هذه الصكوك لا فائده منها".
هذه "الثورة البروتستانتية" التي قام بها مارتن لوثر ورعيل من الإصلاحيين، لم تؤسس لإصلاح ديني في أوروبا فحسب، بل أسست لأوروبا جديدة، ومن ثم لعصر التنوير الذي مهد للثورات المتتالية وانتصار الفكر الجديد، وبالتالي المؤسسات الصناعية الحديثة على المؤسسات اللاهوتية التي مثلت عصرها. لكن ومن جهة ثانية، ومن سوء الحظ أن هذه الثورة لم يرافقها ويتصالح معها مواقف مماثلة من لدن المسلمين واليهود بحيث تؤسس لعقلانية وبالتالي مصالحة مع فكر وإضافات الأجيال المعاصرة، هناك من سوء الحظ النظام الرأسمالي هو من يخترع ويغذي الحروب بين الشعوب، وهو من يوظف الأديان لتحقيق غاياته ومصالحه.
بهذه المواقف الجذرية التي عبرت عن روح العصر آنذاك، أصبح مارتن لوثر رمزًا للإصلاح الديني، له أتباع ومدرسة وهو يبشر بعقيدة جديدة. لقد انهارت الكنيسة الرومانية، وبدأ يتأسس على أنقاضها مدرسة إصلاحية دينية مثلتها الحركة البروتستانتية ورمزها مارتن لوثر.
انشق عن الكنيسة الباباوية الكاثوليكية شرائح واسعة من رجال الدين والمفكرين والطلبة وأصحاب الحرف والفلاحين... لقد وُصف البابا أنه يقف مع الاقطاعيين والأمراء الذي يضطهدون الفلاحين وغيرهم من شرائح المجتمع التي ذكرت.
لقد ساعد ظهور الطباعة في ذاك الزمن في انتشار الأفكار اللوثرية؛ ففي العام 1518م طبع في ألمانيا 150 كتابًا، وما بين العامين 1528 و1524م، نشر 900 كتاب. وكانت أكثر الكتب رواجًا كتب مارتن لوثر التي صدرت بكل اللغات المنتشرة في أوروبا.
قدم مارتن لوثر رؤية جديدة للكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد؛ فرأى أنه "منيفستو الفقراء"، "منيفستو الثورة"، لقد تحول الإنجيل إلى منشور ثوري يحكي قصة الثائر يسوع (عيسى) الذي مات وصلب منحازًا إلى الفقراء، بعدما قدمت الكنيسة لهم المسيح الإقطاعي والمسيح رب الوجود. لقد رسمت الحركة اللوثرية صورة للمسيح الإنسان الذي يشعر ويتعاطف مع قضايا الفقراء والمحتاجين، ومن يعملون من أجل رفع الظلم عنهم.. بشارة المسيح، هي ذاتها بشارة الثورة، وإن الإنجيل هو ذاته إنجيل الثورة.
بهذا الوعي الذي كان لمارتن لوثر الفضل في المساهمة في إبرازه، أصبح الثوّار يطالبون بإبعاد رجال الدين من مشاركتهم في الحكومات المدنية. لقد أسست ثورة مارتن لوثر لنظرية فصل الدين عن الدولة. ولم يكتفِ لوثر بما ذكر، بل رأى أن أبواب الجنة مفتوحة للفقراء والفلاحين والمساكين، ومغلقة أمام القساوسة والأمراء. لقد هيأت أفكار لوثر لعالم جديد، ولدفع الفقراء والفلاحين للقيام بثورات رافضين دفع الضرائب سواء للاقطاعيين أم للكنيسة. لقد أعلنوا أنهم لن يسمحوا أن يصبحوا عبيدًا مرة أخرى. لقد أصبحت حركة مارتن لوثر رمزًا وعنوانًا للإصلاح الديني.. أين نحن من حركة الإصلاح الديني التي تجاهلتها المؤسسات اللاهوتية التي لم تجدد نفسها وترسم صورة مستقبلية لوجودها؟

تعليقات

قد يهمك

ثورة يوليو ومفهوم العداله الاجتماعيه... نقاش مع الأستاذ حلمي نمنم - بقلم فرحان صالح

فرحان صالح في سطور

كفرشوبا قصة حب - سيرة مكان

سيرة فرحان صالح: كفرشوبا (قصة حُبّ.. سيرة مكان)

رسائل حب : رواية جيل

جنوب لبنان : واقعه وقضاياه

حول تجربة الإخوان المسلمين : من جمال عبد الناصر إلى عبد الفتاح السيسي

المادية التاريخية والوعي القومي عند العرب